حكايات قبل النوم فانوس ووشوشة الظلام

المخلوق الصغير فانوس يطير في وادي الأحلام المضيء تحت سماء مليئة بالنجوم والقمر، مشهد هادئ وخيالي يناسب الأطفال قبل النوم.

بعيدًا جدًا، خلف تلال الغيوم النائمة وأبعد من آخر نجمة ساهرة، يقع “وادي الأحلام الهامسة”. هذا الوادي لا يستيقظ إلا عندما يغلق العالم عينيه. أرضه مغطاة بعشب ناعم كالحرير، ونهر صغير يجري فيه لا يحمل ماءً، بل يحمل ألحانًا هادئة هي كل التهويدات التي غنتها الأمهات في ذلك اليوم.

في هذا الوادي الساحر، عاش مخلوق صغير ولطيف اسمه “فانوس”. لم يكن فانوس حشرة أو طائرًا، بل كان شيئًا بينهما. كان بحجم ورقة شجر، وجناحاه شفافان يلمان كقطرات الندى، وفي داخله كان يشتعل نور دافئ وهادئ بلون العسل المذاب. لم يكن ضوءًا حارقًا أو مبهرًا، بل كان ضوءًا لطيفًا، كأنه عناق دافئ في ليلة باردة.

كل ليلة، عندما يستقر القمر في كبد السماء ويلف الصمت الوادي، كانت تبدأ مهمة فانوس. كان يطير بجناحيه الخفيفين، ويحلق بصمت بين الأزهار المتلألئة والأشجار التي كانت أغصانها تتهامس بأسرار قديمة. لم تكن مهمته أن يضيء الظلام، بل أن يستمع إليه. كان عمل فانوس هو جمع “الوشوشات المنسية” التي تركها النهار خلفه.

كان يجمع وشوشة ضحكة طفل لم يسمعها أحد، ويضعها في جرابه الضوئي لتتحول إلى حلم مبهج. كان يجد وشوشة أمنية جميلة تاهت في الهواء، فيلتقطها برفق لتصير حلمًا مليئًا بالأمل. كانت حقيبته الصغيرة تتوهج بكل هذه الأصوات السعيدة، وكان يشعر بالرضا وهو يساعد في نسج أحلام العالم.

في إحدى الليالي، وبينما كان يطير قرب ضفة “نهر التهويدات”، شعر بشيء مختلف. لم تكن وشوشة دافئة أو سعيدة. كانت وشوشة باردة وصغيرة، ترتجف تحت ورقة زهرة “القمر الأزرق”. اقترب فانوس ببطء، وأضاء نوره الدافئ المكان. رأى وشوشة صغيرة رمادية اللون، ملتفة على نفسها كالكرة الصغيرة الخائفة.

همس فانوس بصوته الذي يشبه حفيف الأوراق: “مرحبًا أيتها الصغيرة، هل أنتِ تائهة؟”

لم ترد الوشوشة، بل ارتجفت أكثر. استمع فانوس بعمق، واستطاع أن يشعر بما تحمله. لم تكن ضحكة أو أمنية، بل كانت وشوشة قلق. كانت لشخص صغير في مكان ما، يخاف من الظلام. كانت تحمل في طياتها الخوف من الوحوش المتخيلة تحت السرير، ومن ظلال أغصان الأشجار التي تبدو كالأيدي الطويلة على الحائط.

شعر فانوس بالحزن من أجلها. عادة، كان يجمع الوشوشات ويذهب، لكن هذه الوشوشة كانت مختلفة. كانت تحتاج إلى أكثر من مجرد أن تُجمع. كانت تحتاج إلى الطمأنينة.

قال فانوس برفق: “أنا أفهم. الظلام يبدو كبيرًا ومخيفًا أحيانًا. لكن هل تسمحين لي أن أريكِ سره؟”

مدّ فانوس شعاعًا صغيرًا من نوره الدافئ، ولف به الوشوشة المرتجفة كأنه وشاح صوفي. ترددت الوشوشة للحظة، ثم سمحت له بحملها.

لم يضعها فانوس في جرابه، بل حملها أمامه وطار بها عاليًا في سماء الوادي. قال لها: “انظري إلى الأسفل”.

نظرت الوشوشة فرأت أن وادي الأحلام الهامسة لا ينام في الظلام، بل يستيقظ فيه. رأت زهور “القمر الأزرق” وهي تفتح بتلاتها المتوهجة، ناشرةً غبارًا فضيًا يلمع في الهواء. رأت الفطريات الصغيرة على جذوع الأشجار وهي تضيء وتنطفئ في تناغم، كأنها قلوب الغابة النابضة.

ثم طار بها فانوس نحو “نهر التهويدات”. قال لها: “استمعي جيدًا”.

استمعت الوشوشة، فسمعت لحنًا عذبًا وهادئًا يتدفق مع النهر. كان النهر يغني للحصى المستدير على ضفافه، وللأسماك الحالمة التي تسبح في أعماقه، وللنجوم المنعكسة على سطحه. لم يكن صوتًا مخيفًا، بل كان صوتًا مريحًا يبعث على النعاس.

أخيرًا، حلق بها فانوس عاليًا جدًا حتى أصبح الوادي تحتهما بساطًا مخمليًا مرصعًا بالأضواء الناعمة. أشار بضوئه نحو السماء وقال: “والآن، انظري إلى الأعلى”.

نظرت الوشوشة إلى الأعلى فرأت ملايين النجوم المتلألئة. لم تكن بعيدة ومخيفة، بل بدت وكأنها عدد لا يحصى من أصدقاء فانوس، يرسلون ضوءهم الدافئ عبر المسافات الشاسعة ليقولوا “نحن هنا، أنت لست وحدك”. وكان القمر الفضي الكبير يراقب الجميع بابتسامة هادئة وحنونة.

ببطء، بدأت الوشوشة تتغير. لم تعد باردة ورمادية. بدأ الدفء يسري فيها، وتحول لونها إلى فضي لامع، مثل ضوء النجوم. لم تعد ترتجف من الخوف، بل كانت تتوهج بالدهشة والسكينة. لقد رأت أن الليل ليس فارغًا ومظلمًا، بل هو مليء بالجمال الهادئ والأسرار اللطيفة والأصدقاء الصامتين. لقد تحولت من وشوشة قلق إلى وشوشة سلام.

ابتسم فانوس. حمل الوشوشة الفضية بلطف، ووضعها في جرابه الذي أصبح الآن أكثر إشراقًا. طار بها إلى منبع نهر الأحلام، وفتح جرابه. خرجت الوشوشة الهادئة، وانضمت إلى تيار الأحلام السعيدة، لتجد طريقها إلى ذلك الشخص الصغير الذي كان خائفًا، وتهديه حلمًا جميلًا عن الوديان المضيئة والنجوم الصديقة.

بعد أن أنهى عمله، شعر فانوس بالرضا والتعب اللطيف. وجد ورقة شجر عريضة وناعمة، وهبط عليها. التف على نفسه، وبدأ نوره العسلي يخفت شيئًا فشيئًا، مثل شمعة تنطفئ برفق. أغمض عينيه الصغيرتين، وغط في نوم عميق، وهو يحلم بكل الجمال الذي يختبئ في قلب الليل.

والآن، أغمض عينيك أنت أيضًا. فالظلام ليس فارغًا. إنه مليء بالنجوم الهامسة، وزهور القمر، وربما، إذا أصغيت جيدًا، يمكنك أن تشعر بضوء فانوس الدافئ، وهو يجمع كل أمنياتك السعيدة ليحولها إلى أحلام جميلة.

تصبح على خير.

Scroll to Top