
كانت الشمس تميل نحو الغروب، ترسل خيوطها الذهبية عبر زجاج المقهى الهادئ، لتستقر برفق على رفوف الكتب القديمة. كنت أجلس في ركني المفضل، أتصفح ديواناً لشوقي، بينما يداي تحتضنان كوب قهوتي الدافئة.
رأيته يدخل من الباب، هالة من نور تحيط به، أو ربما كان انعكاس الشمس. كان وسيماً، ببساطة أنيقة، وكأنه خرج من صفحات رواية كلاسيكية.
لم أكن أؤمن بالحب من النظرة الأولى، حتى رأيته. نظراتنا تلاقت للحظة خاطفة، وشعرت بدفء غريب ينتشر في أوصالي.
اختار طاولة قريبة، وبدأ يقرأ في كتاب ضخم ذي غلاف جلدي عتيق. كنت أراقبه خلسة، أحاول تخمين أفكاره، وعالمه الداخلي.
بعد فترة، لاحظت أنه يتبادل النظرات معي أيضاً، نظرات قصيرة ولكنها تحمل شيئاً من الفضول، وربما الإعجاب.
لم أجرؤ على الاقتراب، أو حتى الابتسام. كنت خائفة من كسر هذه اللحظة السحرية، من أن يتبدد هذا الشعور الغريب.
لكنه هو من كسر الصمت. نهض من مكانه، وبابتسامة خجولة، توجه نحو طاولتي.
“أعتذر عن الإزعاج، ولكن لاحظت أنك تقرئين لشوقي. أنا معجب بشعره أيضاً.”
صوته كان دافئاً ورخيماً، كأنه لحن عذب. تلعثمت قليلاً قبل أن أتمكن من الرد.
“أهلاً بك. نعم، شوقي شاعر عظيم. يسافر بك إلى عوالم أخرى.”
تبادلنا أطراف الحديث عن الشعر، والأدب، والحياة. اكتشفت أننا نتشارك الكثير من الاهتمامات، والأحلام.
الوقت مر سريعاً، وكأننا في حلم. الشمس كانت قد غربت تماماً، وأضواء المقهى الخافتة أضفت جواً من الرومانسية.
“أنا آسف، يجب أن أذهب الآن. لدي موعد.” قالها بنبرة اعتذار.
خيبة أمل خفيفة اعترتني، لكنني لم أظهرها. “أتفهم ذلك. تشرفت بمعرفتك.”
قبل أن يغادر، مد يده ليمسك بيدي للحظة. “أتمنى أن نلتقي مرة أخرى.”
شعرت برجفة خفيفة تسري في جسدي. “أنا أيضاً أتمنى ذلك.”
غادر المقهى، وتركني وحدي مع أفكاري. لم أعرف اسمه، أو أي شيء عنه، ولكنني شعرت أنني عرفته طوال حياتي.
في اليوم التالي، عدت إلى المقهى في نفس الوقت، وجلست في مكاني المفضل. كنت أترقب ظهوره، متمنية أن أراه.
مرت الدقائق ببطء شديد، وبدأت أفقد الأمل. ربما كان مجرد حلم، أو وهماً عابراً.
فجأة، رأيته يدخل من الباب. ابتسمت لا إرادياً، وشعرت بفرحة غامرة.
توجه نحوي مباشرة، وعلى وجهه ابتسامة أوسع من الأمس.
“كنت أخشى ألا أجدك هنا. لم أستطع الانتظار لرؤيتك مرة أخرى.”
جلس بجواري، وأمسك بيدي. لم أعد خائفة، أو مترددة. شعرت بالأمان، والراحة، وكأنني وجدت وطني.
بدأنا نتحدث من جديد، ونتبادل الأحلام، والأماني. اكتشفت أننا نبحث عن نفس الشيء: الحب الحقيقي، الصادق، الذي يدوم إلى الأبد.
مع مرور الأيام، أصبح المقهى ملتقانا السري. كنا نلتقي كل يوم، نتحدث، ونقرأ، ونتبادل النظرات.
الحب نما بيننا ببطء، وثبات، كشجرة باسقة تمتد جذورها في أعماق الأرض.
أدركت أن الحب ليس مجرد كلمات، أو وعود، بل هو فعل، وتضحية، وثقة متبادلة.
الحب هو أن تجد شخصاً يفهمك، ويتقبلك كما أنت، ويشاركك أحلامك، ويقف بجانبك في كل الظروف.
الحب هو أن تجد نصفك الآخر، الذي يكملك، ويجعلك شخصاً أفضل.
في أحد الأيام، وبينما كنا جالسين في المقهى، أمسك بيدي، ونظر إليّ بعينين لامعتين.
“أريد أن أقضي بقية حياتي معك. هل تقبلين الزواج بي؟”
لم أتردد لحظة واحدة. “نعم، أقبل.”
عانقني بقوة، وشعرت أن العالم كله يدور من حولي.
في تلك اللحظة، عرفت أنني وجدت الحب الحقيقي، الحب الذي يدوم إلى الأبد. الحب الذي بدأ بنظرة، وكوب قهوة، وكتاب قديم في مقهى هادئ.